-->

العلمانية والعلم في تفسير النصوص الشرعية

العلمانية والعلم في تفسير النصوص الشرعية

مجدي داود

 

إن لكل شيء قواعد وأصول، وفي كل مجال هناك أسس وضوابط علمية يهتم بها العاملين فيه والمتخصصين فيه، يظل الدارس يدرس سنينا طويلة حتى يحصل على الشهادة أو يرتقي إلى الدرجة التي بمقتضاها يستطيع أن يطبق ما تعلمه ويمارس مهنته ووظيفته التي حصل عليها بعد أن حصل على شهادته التعليمية أو ارتقي إلى درجته العلمية.

 

فليس للطبيب أن يتحدث في أمور الهندسة ويصمم مبنى بلا علم، وليس للمهندس أن يجري عملية جراحية للمريض بدعوى أنه يفهم وأن لديه عقل يفكر به، فهذا ترفضه الطبيعة البشرية ويرفضه العقل والمنطق، ولا يمكن لطالب في كلية الطب أن يذهب إلى كلية التجارة على سبيل المثال ليتعلم كيف يجري فحصا على نظر المريض، سينظر الناس إليه على أنه مجنون، لن يسمح له بالدخول، لن يحصل على الشهادة التي تمكنه من العمل كطبيب، لن يعترف به أحد ولن يلجأ إليه أحد، سيصير أضحوكة الناس.

 

وليس الإسلام عقيدة وشريعة وعبادة ومعاملة وفقها وحديثا بعيد عن هذا، فهذه علوم عظيمة، لابد أن لها المتخصصين الذين يدرسون ويناقشون ويفهمون ويعملون، ويبحثون ويجتهدون ويطبقون مستندين في كل ذلك إلى أسس علمية وضوابط وضعها العلماء السابقين الذين تعلموا على يد الصحابة والتابعين ومن سار على النهج القويم.

 

لماذا إذاً نجعل الدين ألعوبة لكل من يريد أن يلهو ويلعب، ولكل من انحرف فكره وأعجب بنفسه وظن أنه على مبارزة الله قادر، وعلى فهم مراده بلا جهد ولا علم مستطيع، ويظن أنه أكبر من أن يجلس عند أرجل العلماء يتعلم عنهم الأصول ليحسن فهم الفروع، ويظن أنه أكبر من يتعلم علوم الإعراب والنحو والصرف، ثم يخطئ في قراءة القرآن فيرفع المفعول به وينصب الفاعل، ويحرك الساكن ويسكن المتحرك، ثم يقول هذا مراد الله خذوه مني فأنا عالم.

 

يجب أن نوقن ويوقن الجميع أن أول آيات نزلت من القرآن الكريم كانت قول الله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [سورة العلق] ، إن كون هذه الآيات هي أول مانزل من القرآن ليس أمرا عبثيا، بل هو أمر رباني وواجب أوجبه على عباده المسلمين بطلب العلم، يأثم من لا يمتثل له، فهو ليس مجرد حق للفرد يمكنه التنازل عنه، بل حق الله أولا، وحق الأمة على الفرد ثانيا، وهذه عظمة الإسلام التي لا توجد في سواه.

عندما أوحى الله عز وجل إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، نزل القرآن بلسان عربي مبين، وكان العرب قوم يعتنون باللغة أيما اعتناء، فكان من السهل واليسير عليهم أن يفهموا ألفاظ القرآن ومعانيه ومراد الله تعالى منه، ولهذا لما جهر النبي صلى الله عليه وسلم، لم يزد على أن قال لقريش أنه رسول من عند الله جاء يدعو إلى التوحيد والكفر بالأصنام والأوثان، فرفض مشركي قريش ما قاله النبي فورا، لأنهم فهموا من كلمة "لا إله إلا الله" ما يظل طالب العلم منا يدرس معناها لسنوات.

 

لم يكن العرب في زمن الرسول في حاجة إلى وضع أصول وضوابط وقواعد للعلوم الشرعية، لأن الرسول كان بين ظهرانيهم، يسألونه في أي وقت عن أي شئ، وبعد وفاة الرسول كان صحابة رسول الله بين ظهرانيهم، وكل منهم موسوعة علمية متنقلة، فكان هناك علي وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وابن عوف وغيرهم من كبار صحابة الرسول، ثم تعلم عنهم التابعين.

 

عندما اتسعت الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام الفرس والروم الذين كانوا في بلاد الشام ومصر وممالك الخليج وغيرها، واختلطت اللغة العربية بغيرها من اللغات، صار لابد من وضع أسس وقواعد، مثلما كانت الحاجة ماسة إلى تنقية الأحاديث النبوية من الضعيف والموضوع.

 

إن العلماء الذين وضعوا هذه الأصول والقواعد العلمية للعلوم الشرعية لم يأتوا بها من عند أنفسهم، ولم يخترعوها، بل إنها كانت موجودة ضمنا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلافة الراشدة، فكان الصحابة يتعاملون بالخاص والعام والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ وغير ذلك، ولكن دون أن يجعلوها قواعد مدونة لأنهم لم يكونوا في حاجة إلى ذلك كما أسلفنا.

 

وضع العلماء هذه القواعد والأصول لحماية الدين من انحرافات العقل البشري ومن أهواء البشر، التي تدفعهم إلى تزييف الحقائق، وتفسير النصوص إلى معان لا تحتملها، ولمساعدة العقل في الوصول السريع إلى المعنى الحقيقي للنصوص واستنباط الأحكام الشرعية دون الدخول في متاهات كثيرة وطرق لا تؤدي إلى الهدف المطلوب، وذلك بعد أن يكون المجتهد قد درس هذه القواعد والأصول.

 

لكن علمانيي بلادنا قوم متناقضون في أفكارهم وآرائهم وتصرفاتهم وأفعالهم، فهم ينسبون العلمانية إلى العلم، مع أن الكلمة في أصلها اللاتيني لا علاقة بها بالعلم من قريب أو بعيد، ويخرجون على الشاشات ويؤلفون الكتب والدراسات ويقومون بالأبحاث ويكتبون المقالات عن العلم وأهمية العلم، وأنه لا نهضة بلا علم، وأنه بالمنهج العلمي في كل المجالات تتقدم الأمم وتنفض عنها غبار التخلف والرجعية.

 

إلا أنهم في ذات الوقت يرفضون الاحتكام إلى الأسس والقواعد العلمية التي أصلها العلماء، ويضربون بها عرض الحائط، ويتجاوزونها عندما يقدمون على تفسير النصوص الشرعية، واستنباط الدروس والأحكام منها، فأنى لهؤلاء أن يصلوا إلى الحقيقة وهم قد اتخذوا من العلم عدوا لهم.

 

يحاول هؤلاء العلمانيون أن يوهموا الناس أن كل منهم قادر على فهم آي الذكر الحكيم وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، دون أن يبذلوا أدنى جهد في التعرف على هذه الأسس والقواعد التي وضعها العلماء، لأنهم في الأصل لا يعترفون بهذه الأسس، فهم يريدون تفسيرا للنصوص على حسب أهوائهم وبالقطع التزامهم بالأسس العلمية لن يمكنهم من مرادهم.

 

نجدهم يهرعون إلى المؤسسات الرسمية للاستشهاد بفتاوى بعض رجالها وجعلها حائط صد ضد التيار الإسلامي، وقالوا لا نعترف إلا بقلعة العلم هذه، ثم إذا خيبت تلك الفتاوى آمالهم، هرعوا إلى بعض المتسلقين المتعالمين ممن لم يسبق لهم التعلم لا في المؤسسات العلمية الرسمية ولا في غيرها، وفي ذات الوقت يهاجمون التيارات الإسلامية بسبب آرائها وفهمها للنصوص الشرعية، فإذا كنتم قد أبحتم لكل "من هب ودب" أن يفسر النصوص الشرعية على حسب هواه، فلماذا تحجرون على التيارات الإسلامية وفيهم العلماء والباحثين والمفكرين الذين تعلموا في المؤسسات العلمية الرسمية وغير الرسمية على حد سواء.

 

وجوهر العلمانية هو أن العقل يسبق النص، فالعقل هو الحكم على النص عند العلمانيين، وبالتالي فإن شرعية النص متوقفة على قبول العقل لها، وهم لا يؤمنون بصحة النص الإلهي إلا إذا وافق عقلهم، وإن تعارض مع عقلهم ولم يقبله عقلهم فإنهم يحكون بخطأ هذا النص، وبالتالي فليس عجبا أنهم يقومون بتحريف النصوص وتأويلها على غير ما تحتمل، أو إنكار صحتها بالكلية.

 

إن الفارق بين العالم والعلماني هو أن العالم إذا عرضت عليه مسألة أو أراد النظر في نص، فإنه يستدعي كل الضوابط والأصول والقواعد العلمية، من أصول الفقه والقواعد الفقهية وقواعد التفسير وعلم الحديث وغيرها بالإضافة إلى قواعد اللغة العربية، ثم يعرض عليها النص أو المسألة، ويجهد عقله في تطبيق هذه الأسس العلمية حتى يصل إلى الحكم النهائي، بالطبع ليس كل من نظروا في المسألة سيصلوا إلى الصواب، لأن هناك اختلاف بين البشر في قدراتهم، لكنهم على الأقل سيصلون إلى الأقرب للصواب لأنهم اعتمدوا المنهج العلمي

 

أما العلماني فهو لديه رؤية مسبقة وحكم مسبق حسب هواه، فلا يتعب نفسه في الوصول إلى الحكم بالأسس العلمية حيث يعتبر عقله حكما على النص، فهو قد ضل الطريق من بدايته فأني له أن يهتدي إلى النتيجة الصحيحة في نهايته.

 

·

 

 

 حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر

 

مجدي داود
كاتب المقالة
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع مدونة مجدي داود .

جديد قسم :