-->

وفاة شنودة وأثره على مصر والكنيسة الأرثوذكسية








وفاة شنودة وأثره على مصر والكنيسة الأرثوذكسية


مجدي داود






رحل عن عالمنا نظير جيد روفائيل بابا النصارى الأرثوذكس السابق المعروف باسمه الكهنوتي "شنودة الثالث"، وهو واحد من أهم وأبرز الشخصيات في تاريخ مصر خلال الثلاثة عقود الأخيرة، لما أحدثه من تغير كبير في النسيج الاجتماعي المصري، وفي العلاقة بين المسلمين والنصارى الذي يتعايشون في سلام ووفاق منذ أربعة عشر قرنا من الزمان، إلا أن هذا الرجل فعل ما لم يستطع الأعداء أن يفعلوه، وما عجز الاحتلال البريطاني الذي جثم على صدور المصريين أكثر من سبعين عاما، ومن قبله محاولات هدم مصر واحتلالها، كل هذا لم يفعل مثلما فعل نظير جيد.


بادئ ذي بدء فإن نظير جيد روفائيل هو أحد رموز جماعة الأمة القبطية، وهي جماعة ترفع شعار "الإنجيل دستورنا، والموت في سبيل المسيح أسمى أمانينا"، وقامت في عام 1954 باختطاف البطريرك الأنبا يوساب الثاني من مقر المطرانية، وإجباره على توقيع استقالة، ونقلوه بالقوة وتحت السلاح إلى أديرة وادي النطرون، ودعوا الشعب إلى انتخاب بطرك جديد وتحصنوا بالمقر الرئيس للبطريركية، ثم تدخلت الشرطة وألقت القبض عليهم، وتمت محاكمتهم وحكم عليهم بالسجن لكنهم قتلوا جميعًا في ظروف غامضة داخل سجونهم، بينما فرت مجموعة أخرى وكان من بينهم نظير جيد إلى الصحراء، وهناك اتخذ نظير لنفسه اسما جديدا وهو "أنطونيوس السرياني"، وعاد إلى العمل بالكنيسة مرة أخرى، وتمت ترقيته بشكل غريب ومريب خلال فترة قصيرة، وكانت الحكومة آنذاك تجبر البطريرك كيرلس الثاني على معاقبته بسبب مقالاته التحريضية ضد العرب والمسلمين، إلا أنه كان يعود كل مرة أقوى مما كان، حتى ولي كرسي البابوية في عام 1971.


منذ أن جلس شنودة على كرسي البابوية وقد انفجرت الأحداث الطائفية، وهو الأمر الذي لم يكن موجود مسبقا، ذلك لأن شنودة بدأ يزرع في عقول وقلوب النصارى أن المسلمين عرب غزاة، جاء بهم عمرو بن العاص واحتلوا مصر، وأجبروا النصارى على اعتناق الإسلام، وأن النصارى استضافوهم وأكرموهم لكن المسلمين "الذئاب" ناكري الجميل، جحدوا معروف النصارى بهم، فتملكوا البلاد واضطهدوا النصارى، وقتلوا وسجنوا وعذبوا وهدموا وخربوا وسرقوا حتى سلمت لهم البلاد، لقد شرب النصارى هذا الكلام، ومع وعود شنودة لهم بأنه سيقيم لهم دولة على أرض مصر وسيجعل لهم شأنا وسيطرد المسلمين ويخرب مساجدهم، وأن عليهم أن يساعدوه في ذلك، فبدأوا يترصدون كل شاردة وينتظرون كل حادثة فيجعلون منها مناحة ويصرخون "إنا مضطهدون".


كانت الظروف في عهدي عبد الناصر والسادات مواتية ومناسبة لشنودة، فعبد الناصر كان كل همه هو القضاء على جماعة الإخوان المسلمين وملاحقتهم، حتى أنه كان يحضر بنفسه جلسات تعذيبهم، ثم أنه كان يعمل لمجده الشخصي ويمني نفسه بأن يكون زعيما على العرب كلهم، حتى كانت نكسة 67 فانشغل بإعداد الجيش للحرب، وأكمل السادات المسيرة حتى الحرب، وكان همه خلال تلك الفترة إعداد الجيش للحرب وتهيئة الجبهة الداخلية، وبعد انقضاء الحرب شغل نفسه بالقضاء على الشيوعيين من خلال الصراع الفكري مع الإسلاميين، ثم اتجه نحو ما يسمى السلام مع الكيان الصهيوني ولم يلتفت لما يفعله شنودة من تخريب لنسيج المجتمع، إلا عندما تعرض السادات لضغوط من الرئيس الأمريكي بسبب شنودة، ففطن حينها لخطر كبير يهدد البلاد من الداخل وربما ينافسه في التأثير، فخطب خطابه المعروف في مجلس الشعب بتاريخ 10 مايو1980، واتهم شنودة بأنه يريد أن يجعل من الكنيسة سلطة سياسية، وأنه مَن سبَّب الفتنة الطائفية، وأنه يحرِّض أقباط المهجر، ويقف وراء المنشورات التي تُوَزَّع في أمريكا عن الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون في مصر، وكذلك المقالات والإعلانات المنشورة في الصحف الأمريكية، وأن البابا شنودة يقف وراء مخطط ليس لإثارة الأقباط فقط، ولكن لإثارة المسلمين واستفزازهم.


وكلف مجلس الشعب لجنة فرعية من مسلمين ونصارى لبحث أزمة المشكلة الطائفية فقالت في تقريرها "تأكد للجنة أن بعض المتطرفين من القيادات المسيحية وبعض المتعصبين من رجال الكنيسة قد حاولوا تضخيم بعض الأحداث الفردية، وتصويرها في صورة صراع ديني، وأنها اضطهاد للأقباط، بل ووصل الأمر إلى حد افتعال بعض الأحداث وإلصاق التهمة بالمسلمين بهدف إذكاء نار الفتنة، واتخذ بعض القسس من مثل هذه الأحداث مادة للموعظة التي يلقونها في الكنائس، فتحولت بعض الكنائس إلى منابر لنشر الشائعات الكاذبة وبثّ روح الفرقة بين المسلمين والمسيحيين. وتسجل اللجنة أسفها مما لديها من قرائن ودلائل على أن بعض القيادات الكنسية، ومنها رأس الكنيسة- شنودة - دأبوا على التشكيك، وأنهم تمادوا في مسلكهم وأوعزوا بطبع منشورات وتسجيلات عن الأحداث دونما تمحيص، وأوعزوا بنشرها في المجلات الصادرة بالداخل والخارج، وأن البابا شنودة يريد أن تقيم الكنيسة من نفسها دولة داخل الدولة".


بل إن هيئة مفوضي الدولة قالت عنه "إن البابا خيَّب الآمال وتنكَّب عن الطريق المستقيم الذي تُمْلِيه عليه قوانين البلاد، واتخذ الدين ستارًا يخفي أطماعًا سياسية- كل أقباط مصر منها براء- وإنه يجاهر بتلك الأطماع واضعًا بديلاً له، بحرًا من الدماء تغرق فيها البلاد من أقصاها إلى أقصاها، باذلاً قصارى جهده في دفع عجلة الفتنة بأقصى سرعة وعلى غير هدى في أرجاء البلاد، غير عابئ بوطن يؤويه ودولة تحميه، وبذلك يكون قد خرج من ردائه الذي خلعه عليه أقباط مصر".


واستمر شنودة في هذا الطريق، يثير المشاكل وينفخ فيها ليحقق من ورائها مكاسبا للنصارى، تحدى الدولة وقضائها، وأذن للنصارى باقتحام مديرية أمن الجيزة قبل سنوات، ومهاجمة مبنى ماسبيرو وقتل عدد من جنود الجيش المصري، وأثار مشكلة المسلمات الجدد، من خلال إجبارهن على العودة للكنيسة ورفض إخراجهن، وهذه قضية معلومة وجديدة فلن أستفيض فيها.


نجح شنودة في ضم الكنيسة الأرثوذكسية إلى مجلس الكنائس العالمي، ولمن لا يعرف حقيقة هذا المجمع، فإن الكاتب محمد حسنين هيكل يقول عنه في كتابه خريف الغضب: "إن مجلس الكنائس العالمي يعكس دون أدنى شك رغبة جهات أمريكية معينة في أن يقوم الدين بدور رئيس في الصراع، وإن التحقيقات التي جرت في الكونجرس أثبتت أن مجلس الكنائس العالمي كان من الجهات التي حصلت على مساعدات ضخمة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية".


بل يقول عنه الدكتور وليم سليمان قلادة في كتابه (الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية) وهو كاتب نصراني معروف "إن دعوة مجلس الكنائس العالمي تتجه في صراحة تامة إلى ضرورة تدخل الكنائس داخل البلاد المستقلة حديثًا في سياسة بلادها، وابتداع لاهوتية جديدة لتبرير هذا الاتجاه تقول بأن نشاط الدولة في كل نواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو تحت سلطان الله، ولا بد للكنائس من أن تُبدي رأيها في هذا النشاط، ولا بد من الاستعانة بخبرة الكنائس الغربية حتى يكون اتجاه الكنيسة داخل الدولة المستقلة حديثًا متفقًا مع اتجاه الكنائس المسيحية في الغرب".


وقد نجح شنودة في تمثيل النصارى سياسيا، حتى صار المتحدث الرسمي باسم نصارى مصر الأرثوذكس، وصار يتفاوض ويطالب باسمهم في كل شؤون السياسة، ويصب جام غضبه على أي سياسي نصراني لا يعمل تحت راية الكنيسة، والمفكر جمال أسعد مثال على ذلك، واستطاع النصارى السيطرة على جانب كبير من اقتصاد البلاد في كافة الأنشطة تقريبا، حتى أن البعض يزعم أنهم يسيطرون على 40% من الاقتصاد، وحدث عن مظاهر سطوة الكنيسة المصرية بزعامة شنودة ولا حرج.


استطاع شنودة الثالث نقل الكنيسة المصرية من حالة الفقر المدقع التي كانت عليها في عهد عبد الناصر، حتى أنها استعانت به لتقديم مساعدات مالية من خزينة الدولة لدفع رواتب العاملين بها، وكذلك تكفل عبد الناصر ببناء مبنى الكاتدرائية، أما اليوم فإن العاملين بالكنيسة زادوا عشرات المرات، بينما ميزانية الكنيسة تزيد في كثير من الأحيان عن ميزانية الدولة، ويعتبر المال أهم عناصر قوة الكنيسة، في حين أن أحدا أيا كان لا يعرف مصادر هذه الأموال، فلا يمكن لمشروعات الكنيسة ولا التبرعات التي تحصل عليها أن توفر كل هذه الأموال، وبات النصارى يريدون بناء كنيسة لكل أسرة حتى يصبغوا البلاد بالصبغة المعمارية المسيحية، وهي إحدى خطواتهم نحو الدولة المزعومة.


لقد أدرك شنودة منذ أزمته مع السادات أن التحدي العلني للنظام الحاكم لن يفيد، فجعل كل أسلحته سرية في عهد مبارك، خاصة أن الأخير تجاهل حكم القضاء بعزل شنودة، وأعاده إلى مكانته مرة أخرى، ووجه كل همه لمواجهة التيار الإسلامي والحفاظ على المصالح الصهيوأمريكية في مصر، فوجدها شنودة فرصة لبث سمومه وتفجير المجتمع، ومع كثرة المنافقين في وسائل الإعلام ودنيا السياسة وما يتمتع به ذلك الرجل من دهاء وخبث، تم تصويره على أنه حامي حمى الوطن، وزعيم الوحدة الوطنية وحكيم الدولة المصرية، حتى وصل ذلك إلى العوام واستقر في عقولهم، ولهذا لم يستجب لنا الناس حينما كنا نحدثهم عن جرائمه وحقده للإسلام وكرهه للمسلمين، وصناعته للفتنة الطائفية وغير ذلك.


كان شنودة رقما صعبا، وبطريركا مميزا، ولو كان في ظروف غير الظروف ما كان ليصل إلى ما وصل إليه، ولهذا فإن أي بابا قادم لن يكون مثل شنودة، فإن الظروف تغيرت، ومن حسن الحظ أن شنودة لم يسمح بظهور مطارنة مميزين للإعلام، فبيشوي وهو أشهرهم والمرشح الأقوى لخلافة شنودة معروف لدى الكثيرين بأنه هو الذي تهجم على الإسلام وسب القرآن، وفي حال اختياره فسيحدث ذلك ضجة كبيرة في المجتمع، كما أنه ليس هناك أحد من المرشحين لخلافته يتمتع بكاريزما وخبث ودهاء شنودة، وهو ما يعني أن خليفته أيا كان لن يكون في مكانته سواء عند الأقباط فما حققه شنودة لن يحققه أي شخص آخر، ولا عند المسلمين لأن الإعلام اليوم بأيدي كثيرين وليس فقط بيد العلمانيين، وإن الإعلام الإسلامي –على الرغم من ضعفه وتعثره- إلا أنه لا يمكن تجاهله اليوم.


أما عن علاقة البابا القادم بالدولة، فإنها حتما لن تكون كالسابق، فعلى الرغم من مساوئ المجلس العسكري، إلا أن ما حدث في ماسبيرو كان له تبعات كبيرة على العلاقة بين الدولة والكنيسة تمثلت في تهديدات من الدولة بفتح الملفات لكبار القساوسة ما لم تتوقف الكنيسة عن تهورها، وتم بالفعل إحالة عدد منهم للتحقيق وصدر قرار بمنعهم من السفر وهو أمر لم يكن من الممكن أن يحدث في ظل حكم حسني مبارك، وبالفعل تم تحجيم النصارى والكنيسة خلال الأشهر الماضية، وظهر هذا جليا في عدم تدخل الكنيسة وإحداث ضجة على ما حدث في مدينة العامرية بشمال مصر، ولو أن هذا كان في عصر مبارك لأقامت الكنيسة الدنيا ولم تقعدها، وظهر أيضا في مماطلة المجلس العسكري في إصدار قانون دور العبادة الموحد وهو القانون الذي كانت الكنيسة تجاهد لإصداره قبل انتخاب البرلمان، حتى تستطيع بناء ما تريد من كنائس، إلا أنه لم يحدث.


هذا يعني أن الدولة قررت وضع حد للكنيسة وكبح جماحها، وإذا كان هذا يحدث مع شنودة برغم مكانته التي وصل إليها في عهد مبارك، فإنها ستكون أشد مع خليفته ولن تسمح له بالوصول إلى ما وصل إليه شنودة، هذا إذا ظلت الأمور تدار بذات الطريقة الحالية، أعني المجلس العسكري وأجهزة المخابرات، أما إن آلت الحكومة والرئاسة إلى قوى منتخبة وهي التيار الإسلامي، فإنه لن يسمح للكنيسة بلعب دور سياسي، وسيقوم بإعادة الكنيسة مرة أخرى إلى حظيرة الدولة، وإخضاعها لسلطات الدولة وسلطان القضاء، وهذا ما بدأه المجلس العسكري وعلى القادمون إكماله.


بوفاة شنودة فإن الكنيسة الأرثوذكسية المصرية تكون قد وقفت عند ما وصلت إليه من مكانة، وبعد فترة ليست بالطويلة ستبدأ تتراجع للخلف، وتفقد الكثير مما حصلت عليه في عهد شنودة، وهي أيضا بشرى لانحسار أعمال الفتنة الطائفية وتراجع الدور السياسي للكنسية داخليا وخارجيا.





المصدر: موقع قاوم :









--

نحن قوم أعزنا الله بالاسلام فإن ابتغينا العزة فى غيره أذلنا الله
مجدي داود
كاتب المقالة
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع مدونة مجدي داود .

جديد قسم :